تامر المصرى رئيس مجلس الادارة
السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 01/06/2010 العمر : 43 رايق
| موضوع: مقدمة في علوم القرآن الخميس يونيو 10, 2010 10:50 am | |
|
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللهمن شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي لهوأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكله،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: هذه المحاضرة الأولى من محاضرات علوم القرآن لهذه الدورة التأسيسية للعلوم الشرعية وقد وقع اختياري على مقدمة الشيخ -عبد الرحمن بن قاسم النجدي الحنبلي- الذي سماها " مقدمة في التفسير" والأصوب "مقدمة في علوم القرآن"؛ إلا أننا نعتذر للشيخ أن تسميته لها مقدمة في التفسير، أن المفسّر لا بد له من معرفة بمسائل وقضايا علوم القرآن, فلا يكون المفسر مفسرا إلا إذا عرف أسباب النزول, والناسخ والمنسوخ, والمحكم والمتشابه, وغريب القرآن وقراءاته, ومكيه ومدنيه, وغير ذلك, وإلا الأصح والأدق تسمى مقدمة في علوم القرآن
والشيخ -عبد الرحمن بن قاسم النجدي- عالم وعلامة وهو من علماء القرن الماضي، توفي في أواخر القرن الماضي في سنة ثلاث وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة.
ومن أفضل أعماله الجليلة التي تسجّل له وتكتب له - نسأل الله أن يجعلها في صحائف أعماله-، ما قام به من جمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. فكان سبب- بعد الله- في نشر علم شيخ الإسلام ابن تيمية وخصوصا فتاواه التي جمعت في سبعة وثلاثين مجلدا، وخمسة وثلاثين مجلد، ومجلدين فهارس؛ كذلك جمع فتاوى علماء نجد سماه "الدرر السنية" ،وله شروح وحواشي على علوم شتى وقد أفرد حفيده -عبد المالك القاسم- ترجمة حافلة له في مجلد مطبوع.
إذن هذه المقدمة يعني مقدمة لطيفة, ومن أسباب اختيارنا لها أن جامعها الشيخ عبد الرحمن- رحمه الله- أثبت فيها عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن وبيّن انحراف أهل الأهواء والبدع وما زلّوا فيه وما ضلّوا في مسألة القرآن.
وقبل أن نبدأ في هذا المتن نبيّن أهمية تعلّم علوم القرآن، وأن علوم القرآن إن لم تكن هي أهم العلوم فهي من أهم العلوم, فلا ترسخ قدم طالب العلم في فهم كتاب الله إلا إذا علم وفقه وأحاط علما بعلوم القرآن ، وهي كثيرة زادت على ثلاث مائة علم.
فمن يعني فضائل وأهمية تعلّم علوم القرآن أنها تعين الدارس على فهم كتاب الله, ومعرفة مراد الله من كلامه، كذلك أنها تمكّن الدارس من دحض مفتريات أعداء الإسلام، وتفنيد مزاعمهم, فإن أعداء الإسلام ما فتئوا يطعنون بالقرآن, ويثيرون الشبهات حول كتاب الله، حول قراءاته، حول ناسخه ومنسوخه, حول أسباب نزوله حول كثير من القضايا المتعلقة بعلوم القرآن, وخصوصا هؤلاء المستشرقين قاتلهم الله, فإنهم يثيرون الشبهات حول الوحي، الشبهات حول القراءات وغير ذلك؛ وقد تصدى وانبرى للرد عليهم أكثر من عالم, فضلا عن ما دسوا من إسرائيليات من أحاديث موضوعات نسبوها إلى القرآن، والقرآن منها براء, وردّ عليهم رشيد رضا في " الوحي المحمدي", وردّ عليهم شيخنا عبد الفتاح القاضي في" دحض مفتريات المستشرقين حول القراءات " وغيرهما.
كذلك يتعرّف الدارس لعلوم القرآن على مبدأ نزوله, وكيفية نزوله ومدته، ويقف على نواحي إعجازه، وعلى ناسخه ومنسوخه، ومعرفة مكيه ومدنيّه, ومحكمه ومتشابهه وغير ذلك.
كما أن هذا العلم يورث تهذيب النفس، يورث دارسيه تهذيب النفس, وتزكية نفوسهم, وإصلاحها وذلك لتعلقه بخير كلام وبأفضل كتاب.
ولا نخفى قول الله عز وجل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}
كما يعين على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة على حد سواء، إذ هما من مشكاة واحدة فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم-:<< لقد أوتيت القرآن ومثله معه>> ولا يمكن فهم القرآن في منأى عن السنة, فالسنة مبيّنة ومفصّلة وشارحة ومفسرة لكتاب الله :{ وأنزلنا إليك الذكرى لتبين للناس ما نزل إليهم}.
أما هذه المقدمة فنشرع فيها -مستعنين بالله عز وجل- ونقف عند بعض الفقرات والجمل بشيء من الإيضاح والبيان.
مقدمة: تقرأ بوجهين مقدمِة, ومقدَمة
فإذا قرأت بالفتح مقدمَة فيكون معناه أنها تقدم على غيرها من الكلام، وإن قرأت بالكسر مقدِمة فيكون معناه على أنها تتقدم غيرها من الكلام.
يقول الشيخ -يرحمه الله-:<< بسم الله الرحمن الرحيم>>.
البسملة : يفتتح بها الرسائل والكتب.
والحمدلة أو الحمد: يفتتح بها في الخطب, وهكذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يبدأ يعني كتبه بالبسملة:<< بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان عظيم الروم أو كذا....>>.
أما الخطب فكان النبي-عليه الصلاة والسلام- يبدأ بخطبة الحاجة<< إن الحمد لله>>.
والبسملة من بسم الله، وبِسم : جار ومجرور, ومتعلّقها يقدّر إما اسما فيكون التقدير ابتدائي (بسم الله الرحمن الرحيم).
وإما أن يكون المقدّر فعلاً، ويكون المعنى: ابتدأ بسم الله.
وعلى المعنى الأول: يعني على أنه اسم, يقدّر اسماً قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها}.
وعلى المعنى الثاني: تقدير الفعل فيكون كنحو قوله تعالى, أو كمثل قوله تعالى:
{اقرأ بسم ربك الذي خلق}.
والاسم مشتق من السمو أو مشتق من السمة وهي العلامة, إذاً هذا معنى (بسم)
(الله): لفظ الجلالة اسم لله خاصة لا يتسمى به غيره، لكن العلماء اختلفوا هل هذا الاسم جامد أم مشتق ، هل له اشتقاق, يعني من ماذا اشتق؟
هذا خلاف أهل العلم, والصحيح أنه مشتق من أله يأله, وأله ويأله بمعنى خضع وذل, ومنه توحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة, أو توحيد الله بأفعال العباد, وغيره من الأسماء تابع له.
فمثلا (الرحمن) أيضا اسم انفرد الله به لا يتسمى به غيره, لكن تابع لـ: الله, فلا تقول الرحمن الله, وإنما تقول الله الرحمن
أما (الرحمن): فهو ذو الرحمة الواسعة، رحمن صيغة مبالغة على وزن فعلان,
فالرحمن ذو الرحمة الواسعة.
و(الرحيم): موصل رحمته لمن شاء من عباده, وكلاهما (الرحمن الرحيم) يدلان على اتصاف الله جلا جلاله بالرحمة.
ثم شرع في خطبة الكتاب فقال: (الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى للمتقين).
(الحمد لله) : الإخبار عن الله بالكمال في صفاته وأسمائه وأفعاله مع المحبة والتعظيم, فإن كرّر هذا الإخبار سمي ثناء.
والتحميد أعلى من الحمد، و(الألف واللام) الحمد للاستغراق, يعني استغراق جميع صنوف المحامد, فالله -جلا جلاله- المستحق وحده لجميع صنوف المحامد.
ومن أسماء الله تعالى (الحميد).
قوله:(الذي أنزل الكتاب): قال الله تعالى:{ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}.
يرد في كتاب الله (أنزل ونزّل), هل هناك ثمة فرق بين (أنزل ونزّل)؟.
طبعا وردت نصوص في ذلك قرآنية منها قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل }.
وأيضا ورد قوله تعالى: { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}.
وورد قوله تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به روح الأمين}.
فهل هناك ثمة فرق بين أنزل ونزّل؟.
الجواب: نعم, هذا يدل على وجود فرق بين هذين اللفظين, وأرجح ما ورد في معنى الفرق، أن (أنزل) لما تم إنزاله واستقر ولم يبقى منه شيء, هذه اللفظة تستخدم لما تم إنزاله، ولم يبقى منه شيء.
وأما (نَزّل): لما كان مستمرا إنزاله, فما استمر إنزاله يقال فيه نَزّل, وما كمل إنزاله، يقال فيه أنزل .
قوله(تبيانا): أي بياناً وتوضيحاً, إن الله- عز وجل- أنزل هذا الكتاب الذي هو القرآن ، وهذا من أسماء القرآن ، للقرآن أسماء كثيرة:
(الكتاب) قال الله تعالى: {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه}.
ومن أسمائه: (الفرقان): { تبارك الذي نزل على عبده الفرقان}.
ومن أسمائه: (الذكر): { إنا نحن نزلنا الذكرى، وإنا له لحافظون} إلى غير ذلك، فالقرآن له أسماء كثيرة.
فالكتاب المقصود به القرآن، والكتاب على وزن فِعال بمعنى مفعول، والكتب: الجمع.
قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: " ليسرين عليه - يعني على القرآن-في ليلة واحدة، فلا يترك منه في صدر رجل ولا في مصحف وذلك في آخر الزمان، حينما لا يبقى على الأرض من يقول الله الله -يعني يعرف ماذا يعني هذا الاسم-يقولون أدركنا آباءنا سمعنا آباءنا يقول ولا ندري حينئذ يرفع القرآن من صدور الرجال، ومن السطور فتحمل الملائكة وتصعد به إلى الله.
وهذا معنى عبارة العلماء: " منه بدأ وإليه يعود ", وهذا يؤكد أن القرآن كلام الله، فمنه بدأ وإليه يعود.
فربنا -عز وجل- أنزل هذا الكتاب تبيانا لكل شيء, كما قال الله- عز وجل-: {ما فرطنا في الكتاب من شيء } فالله -عز وجل- جعل هذا القرآن منهاج حياة, وجعل هذا القرآن هدى للعالمين، وما من خير إلا وبيّنه الله -عز وجل- في كتابه، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما من شر إلا حذر الله -عز وجل- منه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ونحن نعلم أن الوحي وحيان: وحي كتاب ووحي سنة, والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: « ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على كل خير يعلمه لهم وما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يحذر أمته من كل شر يعلمه لهم».
وإذا كان يعني هذا الدين لم يترك لا شاردة ولا واردة إلا بيّنها حتى قضاء الحاجة,
لكن لا نسرف كما يسرف بعض المتهوكين بأن القرآن يعني الأصل في القرآن أنه كتاب هداية, ليس هو كتاب فيزياء, ولا هو كتاب كيمياء, ولا هو كتاب فلك, ولا هو كتاب حساب, قد يشير إلى قضايا من هذا القبيل، ولكن لا نسرف كما يسرف المولعون بما يسمى بالإعجاز العلمي، فيحمّلون النصوص ما لا تحتمل، ويزعمون أن هناك حتى أسماء أشخاص معاصرين في القرآن, كقصة شفا جرف هار, وقصة إحدى عشر سبتمبر، وكل هذا الكلام فارغ ليس للقرآن علاقة بذلك, أو قصة مستر كوك، ولا أدري لعلها من النكت ينكت بها آخرون ولا يجوز في كتاب الله ذلك.
قال واحد اسمه (كوك) جاء لمسلم قال له: " أنتم تقولون أن في كتابكم في قرآنكم
{ما فرطنا في الكتاب من شيء } فهل اسمي موجود فقال له ذاك " نعم " " وتركوك قائما", " تركوك يا مستر كوك", فهذه سخافات ينبغي أن ننزه عنها القرآن.
(تبيانا لكل شيء): يعني مما يحتاجون إليه، مما يحتاج إليه الخلق في أمور دينهم ودنياهم، في أمور معاشهم، في أمور معادهم ومعاشهم، في أمور أحكامهم الشرعية, هذا المقصود وهذا هو المعنى, كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال عبد الله ابن مسعود : " قد بُيّن لنا في القرآن كل علم وكل شيء " ذكره الطبري في تفسيره, وابن كثير.
قوله (وهدى للمتقين) الهدى إذا ذكر وحده شمل العلم والعمل, كما في قوله تعالى:{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} فمعناه: العلم والعمل، وهذه الأمة المرحومة أمة علم وعمل، فهي ليست كأمة اليهود علم بلا عمل، وليست كأمة النصارى عمل بلا علم.
ولهذا الذين أنعم الله عليهم هم أهل العلم والعمل، فإذاً الهدى إذا ذكر وحده شمل العلم والعمل، ويدل عليه قوله تعالى: {اهدنا صراط المستقيم}.
وإذا ذكر الهدى مع الدين, كان الهدى هو العلم، والدين هو العمل، وهذا يشير إليه قوله تعالى{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} فالهدى هو العلم, ودين الحق هو العمل بالعلم.
وجمع الهدى مع التقوى في قوله تعالى:{ هدى للمتقين} وكما في قوله تعالى في فاتحة سورة البقرة، فيه دلالة على أن التقوى سبب رئيس لنيل الهداية, سبب رئيس من أسباب الهداية, وقد تواترت النصوص في ذلك.
فالتقوى سبب للهداية قال الله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له فرقانا } والفرقان هو الفارق بين الحق والباطل، والفرقان هو النور والبصيرة الذي به يهتدي العبد. والتقوى أيها الإخوة مأخوذة من الوقاية, ومعنى التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية وذلك بفعل ما أمر الله ورسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، وعرّفه آخرون فقالوا: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
وثمار التقوى كثيرة، فهذه تحتاج وحدها محاضرات منها: تيسير الأمور (ومن يتق الله يجعل من أمره يسرا)
ومنها تفريج الكروب ومن يتق الله... والبسط في الرزق: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)
ومنها أنها سبب النجاة: { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}.
قال الشيخ:(وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين): أشهد أن لا إله إلا الله.
أشهد: أي أقول بلساني معتقداً بقلبي أن لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله, مع العمل بمقتضى هذه الشهادة, لأن هذه الشهادة لها مقتضيات:
أن لا تأتي بناقض من نواقض - لا إله إلا الله- وأن تعمل بشروطها السبعة، والإتيان بشروطها واجتناب نواقضها وشروطها سبعة ذكرها الحافظ الحكمي في بيتين, قال يرحمه الله :
العلم واليقيـن والقبــول ***والانقياد فادري ما أقـول
والصدق والإخلاص والمحبة*** وفقـك الله لما أحــب.
فهذه سبع شروط من شروط - لا إله إلا الله- وقد ذكرها أهل العلم وشروحها، وبينوا معانيها.
إذاً قال: (وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين): الملك: يعني ذو الملك الحقيقي التام, المالك لكل شيء, المتصرف في كل شيء, قال الله تعالى :{ لله ملك السموات والأرض} وقال تعالى:{ مَالِك يوم الدين }و{ مَلِك يوم الدين} في القراءة الأخرى، وهي القراءة الأكثر، قراءة الجماعة، وكل ملك مالك وليس كل مالك ملك. فقراءة (ملك) أبلغ من (مالك)، وهما قراءتان سبعيتان بل عشريتان متواترتان.
قال الله تعالى: { وله الملك يوم ينفخ في الصور}.
وقوله (الحق): أي هو الحق -جل جلاله- في ألوهيته، في ربوبيته، في أسمائه وصفاته, فهو معبود بحق، لا إله غيره، ولا رب سواه, فكل المعبودات سوى الله معبودات بالباطل لكن الله -عز وجل- هو المعبود بحق، فهو الملك الحق المبين,
المبين: من البيان، وهو الإبانة، وهو تعالى دلائل وجوده، دلائل ربوبيته، دلائل ألوهيته، دلائل قدرته، دلائل توحيده، لا تخفى على أحد، فقد أبان -جلا جلاله- كل شيء قال الله تعالى: { ويعلمون أن الله هو الحق المبين} وقال تعالى:{ قد بينا الآيات لقوم يوقنون} وهذا القرآن مبين واضح في أحكامه, واضح في تشريعاته، واضح في أوامره ونواهيه, وضّح وبيّن المنهاج وبيّن الصراط المستقيم, ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:<< تركتم على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك>> ولو كان أحكامه غامضة ما اهتدى الناس به, وأرسل الله -عز وجل- الرسل ليبّينوا للناس ما أنزل إليهم.
قوله (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلَّم تسليما كثيرا-): لنا وقفات مع هذه الفقرات:
قوله:(أشهد أن محمداً عبده ورسوله): شهدنا من قبل لله بالوحدانية لله بأنواع التوحيد الثلاثة: الربوبية, والألوهية, والأسماء والصفات، ونشهد لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بالنبوة والرسالة, فهذه الشهادة جزء من تلك الشهادة، فمن شهد لله بالتوحيد ولم يشهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بالاتباع ، فشهادته ناقصة, فمن قال أشهد أن لا إله إلا الله ولم يقل وأشهد أن محمد رسول الله لا يكون مؤمنا، ولا يكون مسلما, ولا يكون موحدا، كما شهدت لله بالتوحيد, فتشهد لنبيك محمد- صلى الله عليه وسلم- بالاتباع.
والمعنى (أشهد): أي أقرّ وأقول وأعترف معتقدا, أقرّ بلساني معتقدا بقلبي أن محمدا عبد الله ورسوله: أي لا مطاع إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(عبده): من العبودية وهي الانقياد, الذل والانقياد مع المحبة لله.
والعبودية: عبوديتان: عبودية عامة وعبودية خاصة.
عبودية عامة: هي عبودية الكافرين وعبودية سائر الخلق.
وعبودية خاصة: هي عبودية أنبيائه وأوليائه, عبودية خاصة خلقه لأن الله -عز وجل- يقول: { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا}
فأنت عبد لله شئت أم أبيت .
أما العبودية الخاصة ففي نحو قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)، (وأنه لما قام عبد الله يدعو) فهذه العبودية الخاصة, وكذلك في نحو قوله تعالى: { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}.
ولماذا قال: (أن محمدا عبده) لماذا نص على العبودية ونسبها إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-؟
قيل في معنى ذلك, فيه معنيان:
المعنى الأول: لئلا يقع الغلو في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وقع الغلو في المسيح وغيره، وفي عزير, وفي مريم.
وقيل لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أفضل من حقّق عبودية لله, فهو أعبد خلق الله لله, ولهذا خُيّر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون رسولا ملكا كسليمان, وبين أن يكون رسولا عبدا، فاختار العبودية فهي أشرف المقام, ولهذا كان يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد, وهذا من تواضعه -صلى الله عليه وسلم- لربه.
فمقام العبودية مقام شريف وصف الله به نبيه مع إثبات الرسالة له.
قوله (ورسوله): فحمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الله, قال الله -عز وجل-:
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} .
وعرّفوا الرسول فقالوا- وهذا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية- قال: " من بعث إلى قوم كافرين بشريعة سابقة أو جديدة, أما النبي: فهو مرسل بشريعة سابقة إلى قوم ليسوا بكافرين هذا، واستدل بقوله -صلى الله عليه وسلم-:<< يأتي النبي وليس معه أحد>>" فهذا رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في كتابه " النبوات ".
قوله: (الصادق): فالنبي- صلى الله عليه وسلم- أصدق خلق الله, وأصدق رسل الله, والصدق لا بد منه في الرسول المبلِّغ. فأنبياء الله منزّهون عن الكذب معصومون من كل ما يجرح عصمتهم وما يكون منفراً من دعوتهم, قال الله تعالى:{ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} وقال تعالى: { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} وقال تعالى:{ والذي جاء بالصدق} وهو محمد-صلى الله عليه وسلم- {وصدّق به}، وهو أبو بكر ومنه سمى الصديق.
الصادق الأمين ائتمنه الله على تبليغ وحيه ودينه, فهو صادق وأمين, وكان معروفا -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية قبل الإسلام بالصادق الأمين, وقصة رفعه للحجر في ثوب ووضعه بيده الشريفة في مكانه, فحل أزمة ومشكلة ونزاعا وقع بين قبائل العرب حينما تنازعوا من يضع الحجر الأسود في مكانه فاصطلحوا على أن أول داخل يطل عليهم هو, فكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- فاستبشروا خيرا, وقالوا جاء الصادق الأمين فأشار عليهم أن يأتوا بثوب ويمسكوه كل قبيلة تمسك من جانب ويضعوه في هذا الثوب حتى إذا رفعوه جميعا أخذه ووضعه في مكانه, فحلّ إشكالاً كاد يعصف بقبائل العرب.
قال: (وعلى آله): آل النبي -صلى الله عليه وسلم- هم قرابته, وهم المؤمنون من ذرية هاشم, ومنهم زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- وللعلماء في معنى الآل قولان:
القول الأول: أنهم الأتباع, لقوله تعالى:{ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} يعني أتباع فرعون, لأن من قرابة فرعون من هو مؤمن كزوجته آسية.
الثاني: أن المراد هم القرابة, لقوله تعالى:{ وقال رجل مؤمن من آل فرعون} أي من قرابته.
و(أصحابه): جمع صحابي, والصحابي هو من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا ومات على إيمانه، من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حال إيمانه به ومات على ذلك فهذا هو الصحابي قلّت الفترة أم طالت, وهذا صحابي أصغر صحابي وهو -محمود بن لبيد- قال :<< حفظت مجّة مجّها النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهي>> كان عمره أربع سنوات، فثبتت له الصحبة
قال (والتابعين): أما التابعي فهو من لقي الصحابة مؤمنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ومات على ذلك, وقرن التابعين من خير القرون أو خير قرن بعد قرن الصحابة -رضي الله عنهم-.
قوله (وسلَّم تسليما): التسليم هو التحية, والله -عز وجل- يسلّم على أنبيائه وعلى أوليائه, قال الله تعالى:{ سلام قولا من رب رحيم} .
وقد جمع المؤلف بين الصلاة والسلام اقتداء بالكتاب العزيز لما ذكره الله عز وجل في سورة الأحزاب:{ إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.
يحسن أن ننقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "النبوات": فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه، فهو رسول, وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول" هذا الذي استقر عليه يعني رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ومات عليه.
قال (أما بعد فهذه مقدمة في التفسير- قلنا الصواب أن نقول في علوم القرآن- تعين على فهم القرآن العظيم, الجدير بأن تصرف له الهمم، ففيه الهدى والنور ومن أخذ به هدي إلى صراط المستقيم).
(أما بعد): يعني المقصود مهما يكن من الأمر بعد ذلك, فهذه مقدمة في التفسير. (تعين): يعني يستعين بها الدارس، تعين الدارس على فهم القرآن العظيم, لأن العلماء ذكروا خمسة عشر علماً لا بد منهما للمفسر, ذكر ذلك السيوطي في شروط المفسر وآدابه, خمسة عشر علما لا بد أن يتقنها وأن يحيط بها علما من تصدر لتفسير كتاب الله عز وجل, وأكثرها في مسائل علوم القرآن فقد ذكرت أنهم ذكروا أكثر من ثلاثمائة نوع من أنواع العلوم المتعلقة بكتاب الله عز وجل ذكرها السيوطي في كتابه " الإتقان ".
وقوله: (تعين على فهم القرآن العظيم): لأن القرآن العظيم أنزله الله عز وجل كي يفهم وكي يعلم, وكي يتدبّر: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } أنزله الله عز وجل كي يعمل به، فالقرآن لابد من فهمه, ولهذا يعني تتابع العلماء في التصنيف في التفسير وفي علوم القرآن، كل ذلك من أجل تيسير فهمه, وتوضيحه ودفع الإشكالات.
وقد ألّف العلماء في المشكل, الآيات المشكلة في القرآن ولشيخ الإسلام ابن تيمية مجلدين، ألّف كتاب في مجلدين في الآيات المشكلة في القرآن المجيد.
قال:(الجدير) يعني الحقيق الذي يستحق أن تصرف له الهمم, فيتوجه العباد إليه في فهم معناه ومعرفة دلالاته, نعم إن القرآن جدير بأن تصرف له الهمم وبأن يعتنى به, وهذه القضية -نراها للأسف- ، نرى تفريطا واسعا بين إخواننا في العناية بكتاب الله, العناية بحفظ القرآن, العناية بتفسير القرآن، العناية بتجويد تلاوة القرآن, فترى طالب العلم ممكن يكون متقدّم في العلوم الأخرى لكنه لا يحسن الفاتحة, يلحن في الفاتحة يلحن في القرآن, لماذا هذا يا إخوان؟! إذا كان أنت تطلب العلم لله فعليك أن ترضي الله بما أوجب الله عليك, أوجب الله عليك أن تتلو كتاب الله كما أنزله الله, أوجب عليك حينما الناس تنظر إليك ذا سمت حسن, لحية سابغة, وثوب قصير فيقدمونك فتكون الفضيحة والمأساة, حينما يقوم طفل صغير حينما يرد على من يشار عليه بالبنان ويعيب عليه أنه لا يعرف لا يحسن قراءة القرآن
هذه رسالة أوصلها لكل سلفي فإنهم الذين يعنوني بالدرجة الأولى أن يتقوا الله في كتاب الله, أنا لا أقول تعالوا اقرؤوا علي القرآن, أنا أقول لك اقرأ القرآن وأحسن تلاوته, إن شاء الله تقرأ على رجل في إندونيسيا ولا في الصين, المهم أنك ما تعاب في تقصيرك و تفريطك في كتاب الله, كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:<< خيركم من تعلم القرآن وعلمه>> ألا تريد أن تكون من خيار الأمة بأن تتصدى لكتاب الله, وأن تتعلم كتاب الله, فضلا عما لك من ثواب وأجر عظيم فالحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف, ولام حرف وميم حرف. إذا أردت أن يكون ميزانك ثقيل بالحسنات عليك بكتاب الله عز وجل ، إذا أردت أن تكون من أولياء الله من أهل الله وخاصّته فعليك بكتاب الله, فلماذا هذا الجفاء مع القرآن، ولماذا هذا الصدود عن القرآن؟!!
أنا أقول سبب واحد, سبب واحد, أن هذا الأخ اللي صار -ما شاء الله- يستحيي أن يجلس فيردّه المعلم, ويوقفه على أخطائه, وربما يكون هذا أمام الناس، فيكون هذا سبب في إحراجه وبالتالي نفسه تأبى عليه بعدما ذاع صيته أو بعدما صار معروف بين الناس بأنه طالب علم، نفسه تأبى عليه أن يرد وأن يجلس ويتعلم, وهذا هو السبب والله أعلم، وقد تكون هناك أسباب أخرى, لكن هذا هو السبب الغالب التي تحول بين الناس, بين أكثر الناس.
قال: (فهم القرآن العظيم الجدير بأن تصرف له الهمم) هذا كلام ينبغي أن نعضّ عليه بالنواجذ أن تصرف له الهمم.
(ففيه الهدى والنور): قال الله تعالى:{آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} وقال تعالى:{فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} والنور قال الله تعالى :{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين}.
فهذا القرآن فيه نور ينوّر القلوب، وينوّر الله عز وجل فيه السبيل بهذا القرآن نعرف الحق من الباطل, والخير من الشر, وسبيل المجرمين من سبيل المؤمنين وأهل الهدى من أهل الضلال, وأهل السنة من أهل البدعة قال الله تعالى:{ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}
من أخذ به هدي إلى صراط المستقيم, إلى صراط المستقيم يعني إلى الإسلام الصحيح, لأن الصراط المستقيم ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- الصراط المستقيم وذكر السبل ووضع على يمين هذا الصراط المستقيم خطوط وقال : هذه سبل على كل سبيل شيطان, فالذي يتمسك بكتاب الله ويعمل بكتاب الله يهديه الله عز وجل إلى الصراط المستقيم, إلى الإسلام الحق إلى الكتاب والسنة في منهج سلف الأمة لا يتّبع السبل، يهديه الله عز وجل ويثبته على الصراط المستقيم, يكون من الذين أنعم الله عليهم, الذين أنعم الله عليهم هم الذين سلكوا الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا, قال الله تعالى فيهم :{ اهدنا الصراط المستقيم}
فمن أخذ بهذا القرآن وعمل به واتبع الهدى والنور الذي فيه, فإنه قد هدي إلى الصراط المستقيم.
إذاً هذا يدل على أن تمسك بالقرآن, والعلم بالقرآن, والعمل بالقرآن عصمة من الفتن, عصمة من سوء خاتمة قال الله تعالى :{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} وقال تعالى:{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}
قال ابن عباس: " تكفل الله لمن عمل بالقرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة " .
فنسأل الله عز وجل أن يثبتنا على هذا القرآن وعلى سنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- وأن يوفقنا للعمل بهما.
| |
|